«هرم الجنوب».. 53 عامًا على ملحمة بناء ”السد العالي” أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين| صور
"الحكاية مش حكاية السد.. حكاية الكفاح اللي ورا السد"، التي ستظل خالدة؛ لتروي قدرة شعب أصيل واجه طغيان الاستعمار، منذ وضع اللبنات الأولى لإنشاء السد العالي، ذلك الحلم المصري الذي ولد كبيرا في 9 يناير 1960.
ليس من قبيل المبالغة أن يوصف السد العالي بأنه «أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين»، فقد حمى ذلك المنشأ -الأصيل-مصر من تأثيرات النقيضين «الجفاف والفيضان»على مدار سنوات، فضلًا عن آثاره الاقتصادية التي عاشت «المحروسة» في ظلالها الممتدة على مدار أكثر من نصف قرن من الزمان.
ليؤكد الرئيس الراحل محمد أنور السادات قبل 53 عامًا من يومنا هذا -خلال احتفالية افتتاحه- «أن السد العالي معركة تمت واكتملت بانتصار.. والانتصار هو انتصار الأحرار.. وانتصار الإرادة.. وانتصار للجهد العلمي المنظم.. وانتصار صداقة الحرية والسلام».. وأن «الرموز الكبرى في حياة الأمة ليست حادثة تقع وتُنسى.. وإنما الرموز الكبرى في حياة الأمم إشارة إلى طاقات مستمرة».
الرئيس السادات ونيقولاي بوجورني خلال افتتاح السد العالي
نعم.. السد العالي أحد الرموز الكبرى في حياة الأمة؛ لذا لم تكن إقامته عملية روتينية لبناء مبنى أو تشييد مشروع على النيل، ولكنها «حكاية مصرية» تشابكت تفاصيلها وتعقدت حبكتها التاريخية، وارتبطت منذ بداية كتابتها بوجدان المصريين، ليدرك من يقرأ تفاصيلها، أن «المصريين الجدد» بنوّا هرمًا في الجنوب يخطف الألباب، ويجذب الأنظار إلى عزيمة لا تلين، وإرادة صلبة لا تنكسر ولا تخضع لأي ضغوط.
بداية الحكاية
في عام 1946 أصدر التفتيش العام لضبط النيل التابع لوزارة الأشغال العامة -وزارة الري حاليا- الجزء السابع من موسوعة حوض النيل، تضمنت مختلف المشروعات الكبرى المقترحة للتحكم في مياه نهر النيل والاستفادة بها في مشروعات التوسع الزراعي.
وكان من بين هذه المشروعات التي تضمنها الجزء السابع من الموسوعة، مشروع إقامة خزان على النيل الرئيسي جنوب أسوان؛ يقي البلاد من طغيان الفيضانات العالية.
ويوضح المهندس مصطفى محمود القاضي -في كتاب «النيل وتاريخ الري في مصر» الصادر عن وزارة الأشغال العامة والموارد المائية-أن البيانات التفصيلية التي تضمنها الجزء السابع من الموسوعة، أتاحت للمهندس الزراعي المصري -يوناني الأصل- «إدرياندانينوس» التفكير في إقامة سد كبير الارتفاع على مجرى نهر النيل؛ لتخزين كميات كبيرة من المياه داخل الحدود المصرية، لري أراضي جديدة؛ ولتوليد قوة كهربائية عظيمة.
أعمال الكهرباء بالسد العالي
فكرة إنشاء السد العالي تصل إلى ساحة القضاء
تواصل «دانينوس» مع المهندس الإيطالي «لويجيجاليولي» لإبراز المشروع في قالب فني، فقام الأخير بدراسة مبدئية، استعان خلالها بالمعلومات التي استقاها من «دانينوس» بعد مناقشاته مع رجال «ضبط النيل» واطلاعه على خرائط كنتورية غير كاملة.
وعقب ثورة يوليو 1952 تقدم كل من «جاليولي» و«دانينوس» -كل على حدة- بمقترح إقامة سد أمام خزان أسوان، بارتفاع يصل إلى نحو 100 متر؛ لتخزين 165 مليار م3عند منسوب 180 مترًا؛ لزيادة الرقعة الزراعية في القطر المصري إلى نحو 11 مليون فدان، وتوليد قوة كهربائية تقدر بنحو 14 مليار كيلو وات/ساعة سنويا، يمكن استغلالها في التصنيع.
وادعى كل منهما أنه صاحب الفكرة، ووصل النزاع بينهما إلى القضاء.
محمد صدقي سليمان وزير السد العالي
مخططات إنشاء السد العالي تتبلور
في 25 سبتمبر 1952 عرض المشروع على لجنة من تفتيش عام ضبط النيل لدراسته من الناحية الهيدرولوجية، وقدمت اللجنة تقريرها في 19 أكتوبر 1952، جاء في ملخصه، إمكانية إقامة سد عالي عند أسوان للتخزين على منسوب مرتفع؛ لتزويد مصر بعشرات الملياراتمن الأمتار المكعبة من المياه كل عام؛ مخصوم منها الفواقد، كما يزود مصر بالقوة الكهربائية.
تقرير لجنة الخبراء العالميين عن إنشاء السد العالي
وبعد دراسات عدة شاركت في تنفيذها جهات دولية وخبراء أجانب من دول أوروبية وأمريكا، اجتمعت هيئة الخبراء العالميين المكونة من كل من،«كارل ترزاكي» الخبير الأمريكي العالمي في السدود، و«أندريه كوين» الخبير الفرنسي، و«ماكس بروس» الخبير الألماني، اجتمعت اللجنة في 15 نوفمبر 1954، درسوا فيه جميع الأبحاث التي نفذت لدراسة إنشاء السد العالي.
وقدمت لجنة الخبراء العالميين في 4 ديسمبر عام 1954 تقريرا، أجمعوا فيه على صلاحية مشروع السد العالي، وأن الموقع المناسب لإقامته عند الكيلو 6.500 جنوب خزان أسوان، وأوصوا بقيام بعض التجارب والدراسات للوصول إلى أفضل تصميم للمشروع.
المكاتب الاستشارية المشاركة في بناء السد العالي
وعهد إلى إعداد الرسومات التفصيلية والمواصفات لأجزاء المشروع المختلفة إلى الاستشاري البريطاني «ألكسندر جيب وشركاه»، وأجرت شركة «سوجريا» الفرنسية تجارب هيدروليكية على نماذج لوضع تصميم مداخل ومخارج الأنفاق وضمان ثبات واتزان السد في الجزء الأمامي أثناء مرور الفيضانات العالية المتتالية أعلاه، وأجرت شركة «سوليتانش»الفرنسية تجارب حقن التربة بموقع السد للوصول إلى أحسن مواصفات إنشاء الستارة القاطعة للمياه، كما قامت شركة «جوهان كيلر» الألمانية بإجراء تجارب تكثيف الرمال الكثبانية التي توضع بجسم السد وأخرى لتكثيف الطمي.
لافتة مكتوب عليها الفخر لبناة السد خلال إنشاءات السد العالي
السد العالي «حلم قومي»
سعى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى تحويل فكرة إنشاء السد إلى "حلم قومي" يستحق تجنيد كل الطاقات والخبرات لوضعه موضع التنفيذ، وكان "السد العالي" حاضرا على جدول أعمال عبد الناصر في مناقشاته واجتماعاته مع كل المسئولين عربا وأجانب.
حكاية تمويل بناء السد العالي
وبعد أن اتضحت سلامة مشروع السد العالي وصلاحيته فنيا واقتصاديا، تقرر أن يبدأ العمل في تنفيذه مع الاستعانة بقرض خارجي يستخدم في استيراد الآلات والمعدات وأيضا وحدات توليد الكهرباء.
وأبدت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية استعدادها لتقديم القرض اللازم مع البنك الدولي، الذي أوفد مجموعة من الخبراء في نوفمبر 1954 لدراسة المشروع.
إشادة دولية بمشروع السد العالي وفوائده لمصر
وفي فبراير 1955 -وبعد الدراسة- قدمت تلك الدول تقريرا مستفيضا أقروا فيه بسلامة المشروع وبفوائده في مجالات الري واستصلاح الأراضي وتوليد الكهرباء وتحسين الملاحة في مجرى النهر، وأثر ذلك على انتعاش حالة البلاد الاقتصادية وزيادة الدخل القومي.
وأخذت إنجلترا وأمريكا موقفا موحدا من تمويل المشروع، حيث قدرت تكاليف المشروع بـ 1.2 مليار دولار، تتحملها مصر، فيما عدا 400 مليون دولار من العملة الصعبة، يدفع منها البنك الدولي 200 مليون دولار بصفة قرض، وتشترك أمريكا بنسبة 70% وانجلترا بنسبة 30% في دفع الباقي وهو 200 مليون دولار، تقدم على دفعات، وتبدأ بمبلغ 70 مليون دولار.
التراجع عن وعود التمويل.. وقرار تأميم قناة السويس
وضع البنك الدولي شروطا لهذا القرض، رأت مصر أن بها مساسا باستقلالها الاقتصادي، وفي 19 يوليو 1956 انسحبت العروض المقدمة من البنك وأمريكا وانجلترا، وانقلب تأييدهم للمشروع إلى التشكيك فيه، وترتب على هذا الموقف؛ إعلان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مساء الخميس 26 يوليو 1956 تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية.
مصر تتجه إلى المعسكر الشرقي لبناء السد العالي
وفي 27 ديسمبر 1958 أبرمت حكومة الجمهورية العربية المتحدة «مصر» مع حكومة اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية اتفافا؛ لتقديم المعونة الاقتصادية والفنية لبناء المرحلة الأولى للسد العالي في أسوان.
وتضمن الاتفاق؛ تقديم قرض قدره 400 مليون روبل يعادل 35 مليون جنيه مصري -آنذاك- ولم يمل الاتفاق أي شروط على مصر -بحسب ما ذكره المهندس مصطفى محمود القاضي في كتاب النيل وتاريخ الري في مصر- بل كان أساسه المساواة، وعدم المساس بالكرامة والسيادة القومية وعدم التدخل في الشئون الداخلية.
إنشاءات السد العالي
حكايات لا تُنسى من دفتر أحوال السد العالي
في عام 1962، تزايد القلق من توقعات بحدوث فيضان سيجرف كل الجهود التي جرى تنفيذها لبناء السد العالي، مما سيتسبب في خسارات اقتصادية وسياسية ومائية.
وأشارت التوقعات إلى ارتفاع المياه في شوارع القاهرة -بسبب ذلك الفيضان- إلى أكثر من خمس سنتيمترات، إذا لم تنتهِ الأعمال المطلوبة، خلال عامين.
وبحسب ما نشره عمر طاهر -في مقال بجريدةالأهرام يومالجمعة 2 سبتمبر 2016- كانت معدلات إنجاز السد العالي ضعيفة، وتشير إلى خطر قادم، وجدول خطة العمل يشير إلى ضرورة الانتهاء من المرحلة الأهم في بناء السد العالي- تحويل مجرى النيل- قبل مايو 1964.
لتنقلب الأمور رأسًا على عقب، باختيار الرئيس جمال عبد الناصر، محمد صدقي سليمان، لإعادة "كفة ميزان" العمل إلى الوضع المثالي.
«قانون سليمان» وزير السد العالي
"لا راحة ولا إجازات حتى هَدّ الجبل" كان قانون محمد صدقي سليمان، الرجل الذي صُنع من أجله منصب وزير السد العالي، فهو كان أول وآخر وزير للسد العالي.
سار على «قانون سليمان» كل من عمل في بناء السد العالي، فكانوا كأنهم ركبوا قطارًا، لا يعرف محطات سوى محطة النجاح.
وعُلقت لافتات توضح العد التنازلي للزمن المتبقي على تحويل مجرى النهر، وكانت تراجع يوميا، ويكتب عليها (باق من الزمن .... يوم)، ورغم بساطة الفكرة إلا أنها ألهبت حماس العمال، وعُرفت عنه مقولته الشهيرة: "علمنا بناء السد أن الصبر لا يكمن في الاستسلام للزمن.. ولكن في مقاومته".
مطالب وزير السد العالي
لم يطلب محمد صدقي سليمان، الكثير لتنفيذ رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في متابعة إنشاءات السد، فقد كان له مطلبان، وافق عليهما الرئيس الراحل فورا.
كان طلبا سليمان، منحه صلاحيات رئيس الجمهورية، وخط تليفون مباشر إلى مكتب رئيس الجمهورية، ليهجر بعدها سليمان مكتبه ويظل باقيًا في أرض الميدان يستقبل الشكاوى بنفسه، ويتخذ القرارات وسط الأنفاق أو في مجرى التحويل أو على مقعد "كراكة".
قرارات وزير السد العالي لإسراع وتيرة العمل
رئيس السد العالي، أصدر قرارات لإسراع وتيرة العمل في إنشاءات السد، بانتداب ضباط مهندسين، وضم من أنهى خدمة التجنيد إلى العمل، وأقام معهدًا للتدريب على العمل في السد، كما قرر بأن تكون سنة الدراسة الأخيرة لطلبة الدبلوم الصناعي في أسوان، للعمل في السد.
وصف السد العالي
يبلغ الطول الكلي للسد 3600 مترا، منها 520 مترا بين ضفتي النيل، ويمتد الباقي على هيئة جناحين على جانبي النهر، ويبلغ طول الجناح الأيمن 2325 مترا على الضفة الشرقية، ويبلغ طول الجناح الأيسر 755 مترا على الضفة الغربية.
ويبلغ ارتفاع السد 111 مترا فوق قاع النيل من منسوب 85 مترا إلى منسوب 196 مترا، وعرضه عند القاع 980 مترا وعند القمة 40 مترا.
ويتكون جسم السد من ركام الجرانيت والرمال، ويتوسطه نواة مانعة لتسرب المياه، وعلى الجانب الأيسر للسد مفيض، يسمح بصرف ما يزيد على منسوب المياه عند 182 مترا، وهو أعلى منسوب لحجز المياه أمام السد، وتبلغ سعة حوض التخزين على أقصى منسوب للحجز 162 مليار م3، تحتويها بحيرة صناعية يبلغ طولها 500 كيلومتر، ومتوسط عرضها 12 كيلومترا، ويبلغ مسطحها نحو 6500 كيلومتر، وتعد ثاني أكبر بحيرة صناعية في العالم.
بحيرة السد العالي تستقبل أولى قطرات التخزين
استقبلت بحيرة ناصر أولى قطرات مياه التخزين القادمة من الجنوب عام 1968، إيذانا ببدء تخزين المياه، وفي منتصف يوليو 1970 اكتمل الصرح وتحقق مشروع «الحلم القومي»؛ ليتم افتتاحه رسميا في 15 يناير 1971، وبث التليفزيون المصري عبر شاشته، فرحة المصريين بالافتتاح الرسمي للسد العالي.
مصر تنتصر في معاركها
حالف مصر في رحلة بناء السد العالي النصر، وأحاط بالرحلة الفخر، وغلفتها الكرامة، فاجتمعت العوامل التي أعلن بموجبها الرئيس السادات -خلال افتتاح السد العالي- الانتصار قائلا: «إننا اليوم نعلن انتصارنا في معركة.. وغدا نحن على أبواب تحدٍ أخر.. ولكن الإصرار هو نفس الإصرار.. والإرادة هي نفس الإرادة.. والجهد العلمي المنظم هو نفس الجهد العلمي المنظم.. وصداقة الحرية والسلام هي نفس صداقة الحرية والسلام.. إنني أريد أيها الأخوة أن أحيي ذكرى القائد الذي رحل (جمال عبدالناصر).. وفي نفس الوقت أحيى جهد شعبه الباقي إلى الأبد».
نعم سيبقى «هرم مصر الجنوبي» -السد العالي- شاهدًا على حكاية «كفاح المصريين» وإرادتهم التي لم-ولن- تلِن في مواجهة الصعاب، سالكين دروب التنمية والازدهار والحرية والسلام، تتعالى أصواتهم بكلمات النصر مرددين: "قلنا هانبني وادينا بانينا السد العالي".