الحج: أم كلثوم تغني فرحة البسطاء في «القلب يعشق كل جميل»
"فيها طرب وسرور، وفيها نور على نور، وكاس محبة يدور واللي شرب غنى". هكذا تشدو أم كلثوم في المقطع الأخير من أغنيتها "القلب يعشق كل جميل" وهي من شعر بيرم التونسي وتلحين رياض السنباطي.
ولعل "السلطنة" والانخطاف اللذين يستشعرهما المستمع في صوت أم كلثوم، من أسباب خلود "القلب يعشق كل جميل" في ذاكرتنا الجمعية رغم مرور نحو نصف قرن على صدورها، وارتباطها ارتباطاً وثيقاً بموسم الحج.
فالحج، لا سيما في ريف مصر، تتويج لأعوام من الشوق لزيارة الكعبة المشرفة، ولأعوام وأعوام من الادخار والاستعداد المادي والروحي لدى كثيرين. ومن بينهم من لم يبرحوا قراهم قط، يقتصدون في قوتهم القليل، العام تلو الآخر، حتى تكتحل أعينهم برؤية الكعبة، وزيارة بيت الله.
وكعادة الكثير من المصريين الذين يعربون عن فرحهم بالزغاريد والتمايل والرقص، فإن نغمة البهجة والانتشاء التي تشيعها الأغنية، تملأ القلوب بالفرح بمعناه الروحي والجسدي، إذ تقول: "واحد مفيش غيره/ ملا الوجود نوره/دعاني لبّيته/لحد باب بيته/وأمّا تجلاّلي/بالدمع ناجيته".
أغنية دينية مختلفة
لم تكن "القلب يعشق كل جميل" الأغنية الدينية الوحيدة التي تتغنى بها أم كلثوم، ولم تكن اللحن الوحيد الذي يؤلفه رياض السنباطي لأغنية دينية - ولكن عنصراً مهماً في هذه الأغنية، يضعها على حدة بين باقي أغنيات أم كلثوم الدينية.
كتب بيرم قصيدة "القلب يعشق" باللهجة المصرية القريبة من لهجة عامة الشعب، لهجة الفلاح البسيط الذي يمني نفسه بزيارة بيت الله الحرام. أما أغنيات أم كلثوم الدينية الأخرى، فكانت قصائد بالعربية الفصحى مثل "نهج البردة" و"سلوا قلبي" عام 1946، وقصيدة "إلى عرفات الله" عام 1951، وكلها من شعر أحمد شوقي وألحان رياض السنباطي.
وكذلك الأمر عندما شدت أم كلثوم بالأغاني الدينية عبر شاشة السينما، في فيلم "رابعة العدوية" عام 1963، جاءت أغنياتها فيه بالفصحى مثل "الرضى والنور" و"لغيرك ما مددت يدا"، وكلاهما من شعر طاهر أبو فاشا. وفي عام 1967 شدت أم كلثوم بقصيدة "حديث الروح" للشاعر الباكستاني محمد إقبال، التي ترجمها من اللغة الأوردية الشيخ الصاوي شعلان، وهو من علماء الأزهر.
ويقول الدكتور محمد أبو الفتوح غنيم، الأستاذ في قسم موارد التراث في جامعة الملك سعود في السعودية، في مقال نشره في جريدة "الجزيرة"، إن "أغنية القلب يعشق كل جميل جاءت لتتوج هذا العطاء المتميز (لكل من أم كلثوم والسنباطي)، حسَّاً وتعبيراً، عاطفةً وصوفية، وإن كانت بالعامية المصرية. ويكاد يجمع من يسمعها على صوفية روحها، وعلى رقة كلماتها، وعذوبة لحنها، وحسن إنشاد أم كلثوم لها، بل ويتأثر بها ويكاد تدمع عيناه من فرط التأثر بها".
وكما كانت "القلب يعشق كل جميل" الأغنية الدينية الوحيدة لأم كلثوم بالعامية المصرية، فقد كانت أيضاً الأغنية الدينية الوحيدة لمؤلفها الشاعر المصري التونسي بيرم التونسي، صاحب الأغاني العاطفية مثل "هو صحيح الهوى غلاب" و"أنا في انتظارك" و"الحب كده". وكتب بيرم الأغنية بعد سفره للحج وانتشاء روحه بالرحلة إلى الديار المقدسة.
وتضافرت كلمات بيرم وصوت أم كلثوم مع لحن السنباطي. ويقول غنيم في وصفه للحن السنباطي للأغنية "نجح السنباطي بعبقريته الموسيقية، في أن يجمع في لحنه بين الإحساس بالجلال والعظمة والشجن من جهة، والبهجة والمحبة والفرح من جهة أخرى، فكان لحناً خفيفاً ذا إيقاع مرح سريع، يختلف عن ألحانه المعتادة للأغنيات الدينية التي لحنها لأم كلثوم من قبل، أو لغيرها من المطربين والمطربات، أو حتى لنفسه، وهو الأسلوب الرصين الذي كان أشبه ما يكون بالابتهالات الدينية ذات الإيقاع الثقيل".
لحن رشيق تطرب له الأذن
ولأغنية "القلب يعشق كل جميل" تاريخ طويل بقيت فيه حبيسة الورق. حصلت أم كلثوم على كلمات الأغنية من بيرم التونسي عام 1961، بعيد عودته من الحج. وراقت الكلمات لها واستحسنتها، فعهدت بها لزكريا أحمد لتلحينها، ولكن اللحن، الذي جاء على غرار ألحان القصائد الدينية الرصينة الوقع، لم يرق لأم كلثوم ولم تجد فيه ضالتها المنشودة.
وبقيت الكلمات طي الصمت على مدى عشرة أعوام حتى عام 1971، حين عهدت بها أم كلثوم لرياض السنباطي، الذي لحنها كما نسمعها حالياً. وكانت الأغنية من أواخر الأغاني التي تشدو بها أم كلثوم، بل إنها قدمتها في آخر ظهور لها على الإطلاق على خشبة المسرح عام 1972.
ويقول الموسيقي والباحث العماني مسلم بن أحمد الكثيري في مقال نشره في جريدة "عُمان"، إن لحن السنباطي لـ "القلب يعشق كل جميل" جاء مغايراً للكثير من ألحان الأغاني الدينية، التي يُكثر فيها المنشدون أو المغنون من استخدام الآهات أو الترنمات للاستعاضة بها عن استخدام الآلات الموسيقية.
ويقول الكثيري إن السنباطي لم يجد في استخدام الآلات الموسيقية انتقاصاً من روحانية الأغنية الدينية أو هيبتها، بل طوّع استخدام الآلات الموسيقية لزيادة روحانية الكلمات وتأثيرها.
ويلاحظ الكثيري "دور آلة القانون البارز من خلال أداء الأستاذ محمد عبده صالح الذي يكاد أن يكون ثاني المؤدين بعد أم كلثوم نفسها، فيما يشترك في الصولو الأخير معهما عازف الكمان الشهير الأستاذ أحمد الحفناوي".
ويضيف أن "الأعمال الموسيقية لا يقدمها المطرب فقط بل وكذلك العازفون الماهرون الذين يلاقون أيضاً التكريم بالتصفيق من الجمهور تقديراً لحسن أدائهم".
الانتصار للتدين الشعبي
"لا يعاتب اللي يتوب ولا بطبعه اللوم"، يقول بيرم التونسي في كلمات الأغنية واصفاً رحمة الله وقبوله للتائبين. ويقول أيضاً واصفاً كرم الله وعطاءه "أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم، وانا اللي علمتك من غير ما تتعلم. واللي هديته إليك لو تحسبه بإديك تشوف جمايلي عليك من كل شيء أعظم".
يمكن القول أن بيرم التونسي في هذه الأبيات ينتصر للتصور الشعبي للدين والتدين وليس للتصور المؤسساتي، ولعل هذا أحد أسباب ذيوع وانتشار "القلب يعشق كل جميل" حتى يومنا هذا. الدين كما تصوره الأغنية دين رحمة وعطاء وكرم وسخاء، والله عفو رحيم يقبل التوب من التائبين. لا ذكر لعذاب أو عقاب في الأغنية، بل فيها كل ما يبهج وينتشي به القلب كما لو كان قد ارتوى من كؤوس العشق والهوى.
ويقول كتاب "الإسلام الشعبي: الإيمان، الطقوس النماذج"، وهو من إعداد مركز "المسبار للدراسات والبحوث" إن "الإسلام الشعبي قدم مشروعاً موازياً للإسلام التقليدي ذي الطبيعة الصارمة، فيأتي ليكمل المرجعيات التقليدية كالأزهر الشريف، وجامع الزيتونة، بمرجعيات روحية مثل الأولياء والصالحين والدراويش والأساطير، مركزاً على الممارسات الدينية الشعبية بدل التركيز على المؤسسات الدينية التقليدية في الإسلام، فيعيد تأويل النصوص لصالح الممارسة".
ويقول الكتاب أيضاً إن "الإسلام الشعبي يختزن مجموع التصورات الدينية والطقوسية والشعائرية مثل الموالد والطهور والحفلات وزيارة الأولياء والتصوّف الشعبي وصنوف الاعتقاد، وهو ممارسة تلقائية وعفوية للشعائر بعيدة عن الرقابة الرسمية والمؤسساتية، وهذا النمط من التدين الإسلامي مفتوح على العالم والثقافات وغير صدامي".
وهذا التصور البهيج غير الصدامي للدين، الذي تحلق فيه الحمائم في سماء صافية حول الكعبة، والذي يتقرب فيه الحجيج لرب غفور رحيم يقبل التوب، هو ما تصوره "القلب يعشق كل جميل". ولعلها لهذا التصور الذي تملؤه السكينة والرضى للدين تخلد في ذاكرتنا الجمعية، وتبقى صنواً لحلم الحاج في أن يروى عطش روحه برؤية الكعبة ولرجائه أن يغفر الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه بعد الحج.