الدكتور أحمد عبود يكتب: فن التجاهل.. ”قوة السيطرة على الذات”
فن التجاهل هو مهارة أساسية في حياتنا اليومية، قد لا يدركها البعض بشكل مباشر، لكنها تعد سلاحًا قويًا لحفظ السلام الداخلي والتوازن النفسي. نحن نعيش في عالم مليء بالتحديات والمواقف السلبية، حيث يواجه الإنسان أحيانًا انتقادات أو مواقف استفزازية قد تؤثر على حالته النفسية والمزاجية. هنا يأتي دور التجاهل كفعل واعٍ يمارسه الإنسان ليتجنب الانخراط في تلك الصراعات غير الضرورية التي تستنزف طاقته الذهنية والعاطفية.
في السياق العلمي، يمكن ربط التجاهل بالنظرية النفسية المتعلقة بإدارة الضغط النفسي. عندما يتعرض الإنسان لمواقف سلبية أو استفزازية، يكون لديه الخيار إما بالتفاعل الفوري مع تلك المواقف أو بتجاهلها. علماء النفس يؤكدون أن التفاعل المستمر مع السلبيات يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والقلق، بينما التجاهل يسمح للعقل بالاسترخاء والتعامل مع الأمور الأكثر أهمية. وبالتالي، فإن التجاهل يصبح وسيلة فعّالة للحفاظ على التركيز والطاقة.
من الناحية القرآنية، نجد أن القرآن الكريم يشير إلى أهمية التحكم في النفس وعدم الانجرار وراء الاستفزازات. قال الله تعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَـٰمٗا" (الفرقان: 63). هذه الآية توضح كيفية تعامل المؤمنين مع الجاهلين الذين قد يحاولون استفزازهم أو جرهم إلى نزاعات بلا جدوى. فالتجاهل هنا يأتي كحكمة وصفة نبيلة لمن يسعى إلى حفظ هدوئه وسلامه الداخلي.
على مستوى الحياة العملية، يمكننا أن نرى التجاهل كتطبيق للنظرية العلمية المتعلقة بإدارة الطاقة الشخصية. العقل البشري يعمل بشكل محدود من حيث القدرة على التركيز والمعالجة، فإذا استمر الإنسان في التفاعل مع كل ما هو سلبي حوله، سيستنزف تلك الطاقة بسرعة. في علم الأحياء، يمكن القول إن العقل يعمل كالعضلة، كلما زاد الضغط عليها دون استراحة، ستتعب. لكن التجاهل يشبه تلك الراحة التي تحتاجها العضلات بعد التمرين. فهو يتيح للعقل استعادة قوته والتركيز على الأمور المهمة.
في الآية الكريمة "وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا" (الفرقان: 72)، نجد إشارة إلى فن التجاهل. اللغو هو الحديث الفارغ أو التصرفات التي لا جدوى منها، والتجاهل هنا هو المرور الكرام دون الانغماس في تلك الأمور التافهة. هذه الآية تعكس فكرة أن الشخص الذي يتمتع بالحكمة يختار بوعي ما يريد أن يشارك فيه وما يفضل تركه خلفه، دون أن يؤثر ذلك على كرامته أو مكانته.
التجاهل ليس ضعفًا، بل هو قوة عقلية وروحية تمنح الإنسان القدرة على التحكم في مصيره. من يختار التجاهل بوعي، هو شخص يدرك أن الحياة مليئة بالأشياء التي تستحق الاهتمام، وأنه ليس عليه أن يضيع وقته في الرد على كل شيء أو كل شخص يحاول استنزاف طاقته. قال الله تعالى: "فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَقُلۡ سَلَـٰمٞ" (الزخرف: 89)، وهي دعوة صريحة لترك النزاعات غير المجدية والمضي قدمًا في الحياة بسلام.
وفي العلم الحديث، نجد أن الدراسات النفسية تشير إلى أن التجاهل يساعد في تقليل مستويات القلق والتوتر. البشر في كثير من الأحيان يسقطون في فخ الاستجابة السريعة للمواقف الاستفزازية، مما يؤدي إلى تصعيد الموقف. ولكن التجاهل، كعملية تحكم عقلي، يساهم في خفض هذا التصعيد ويحافظ على هدوء الأعصاب.
في النهاية، التجاهل هو استراتيجية نفسية وروحية تهدف إلى الحفاظ على السلام الداخلي والتركيز على ما هو أكثر أهمية في الحياة. هو اختيار يتيح للإنسان أن يحافظ على كرامته وهدوئه النفسي، متجاوزًا الصغائر التي قد تعرقل طريقه. وهو بالتأكيد ليس هروبًا من الواقع، بل هو أسلوب حياة يمكن أن يؤدي إلى النجاح الشخصي والمهني إذا ما تم استخدامه بحكمة.