محمد عبد اللطيف يكتب: المصالح الأمريكية الإيرانية والفراغ الاستراتيجي العربي
تدور أغلب السجالات السياسية فى اللحظة الراهنة، حول التطورات الدراماتيكية، التي تموج بها المنطقة، و عجز النظام الإقليمي العربي في كبح جماح التمدد الإيراني، وطموحات التوسع الاسرائيلي، وذلك بالتزامن مع جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق المدنيين الأبرياء في قطاع غزة، والتي لم يحدث مثلها في التاريخ الحديث والمعاصر، وصولاً للدور الايراني المُلتبس إقليمياً ودولياً، لكن ما بين التباين في الآراء أحياناً، والتعارض فى أحيان كثيرة حول تفسير الأسباب، وأغلبها مشحونة برؤى عاطفية، تظل هناك أمور مكتومة، في نفس كل من يدلو بدلوه فى السجال الدائر، إما خجلًا مما وصل إليه الحال، وإما ألمًا من حالة الفراغ الاستراتيجى العربي ، الناتج عن حزمة من الانهيارات، ومنها مباركة الأنظمة العربية، لتدمير العراق ، و من هنا كانت البداية .
نعم .. كان صدام حسين أرعن،و لا أحد ينكر ذلك نعم .. كان لديه قدر من غطرسة القوة، التي تجلت في صورة بغيضة و حماقة كبرى بغزو الكويت، كل هذا منطقي، و الحكم عليه مقبول و صحيح جداً، لكن الصحيح أيضا، أن المنطقة كلها خسرت خسارة كبري ،أحدثت فراغاً، عندما سمحت بتدمير العراق تدميرا كاملا "النظام والدولة"، فبدلاً من كسر غروره والضغط عليه لتهذيب طباعه، ركب الجميع موجة الأمريكان العراق فجري ما جري ،و ربما أدركت بلدان الخليج العربي بعدها ،أنها دمرت السد ، أو حائط الصد، الذي كان يمنع اندفاع طوفان الخطر الإيراني في المنطقة، فعندما غابت الرؤى الاستراتيجية للمصالح العربية، اكتشف الجميع ـ بعد فوات الأوان ـ أنهم حطموا بأيديهم حصناً منيعاً، في مواجهة الطموح الفارسي، وأن تدمير صدام ونظامه وتفكيك جيشه بتسريح "مليون وثلاثمائة ضابط وجندي " بجرة قلم من "برايمر" الحاكم العسكري الأمريكي، وهذا كان بمثابة الطامة الكبري، ما فتح أبواب الجحيم على المنطقة، ومكن إيران من التمدد بسهولة لتحاصر جزيرة العرب من خلال أزرعها "الحشد الشعبي في العراق، والحرس الثوري في سورية، و حزب الله في لبنان، و جماعة الحوثي في اليمن "، و هذه الازرع ما زالت تمثل التهديد الأكبر لدول الخليج العربي، وهذه نتائج ما أحدثه انهيار العراق، وقد كان يمكن تفاديه لو كانت هناك رؤي يقظة لما يحاك للمنطقة ، فكل دولة دمرتها أمريكا وحلفاءها ، سيطرت عليها إيران من خلال أزرعها، بما يشير إلي اتفاقات سرية بينهما.
جانب آخر و مهم في صناعة الفراغ الاستراتيجي، يتمثل في انشغال بعض أنظمة الحكم العربية بمشكلاتها الداخلية، وما تحويه من سوء فى النواحى الأمنية، والاقتصادية.
ان حالة الوهن التى تمر بها المنطقة ، لا يمكن اقصاؤها بحال من الأحوال، بعيدًا عن تداعيات تعاطي نخبة شائهة من الشعوب مع مخططات معدة سلفاً، ما جعل المنطقة على امتداد خريطتها الجغرافية ، مسرحاً للحروب الأهلية، التى بدأت قبل سنوات بغطاء ثوري، عنوانه التغيير وإسقاط الأنظمة الديكتاتورية، و تحت هذه اللافتة الخادعة، جرى وما زال يجرى، تنفيذ مخططات تدمير الجيوش، واستنزاف قدراتها، إما فى حروب أهلية، أو مواجهات دامية مع جماعات الإرهاب، بهدف إسقاط تلك الدول .
وكان من تداعيات التعاطي المزعوم مع الإرهاب الأسود الذى راح ينهش فى جسد بلدان التأثير في المنطقة العربية، ويعوق تطلعاتها، بفعل تواطؤ إقليمى، كان ، ومازال داعماً لمخططات استراتيجية غربية معلنة، عكفت على إعدادها حكومات وأجهزة استخبارات ومراكز أبحاث و دراسات، بهدف تمزيق المنطقة إلى دويلات صغيرة هشة، قائمة على أساس عرقى ومذهبى وطائفى، بما يضمن تفوق الدولة العبرية على محيطها الإقليمى.
الواقع العربى، الآن، أشبه بلوحة سريالية عصية على الفهم، به دول عاجزة، وأخرى تمر بظروف اقتصادية متردية، كما صار معلوما للكافة أن هناك أنظمة حكم متواطئة ، ساهموا فيما وصلت إليه البلدان العربية من ضعف وتمزق، وأوضاع داخلية مضطربة وظروف اقتصادية بائسة، فعلى خلفية ما أسموه "الربيع العربى"، انفجرت اضطرابات هنا، ودارت حروب هناك، فاختلطت أوراق المنطقة، تحولت سوريا من حال الدولة المؤثرة، والفاعلة فى الشأن الإقليمى، إلى حال لم يعد خاف على أحد، فقد أنهكتها الحروب، وصارت قبلة لتجاذبات إقليمية، وتحالفات دولية، وهي إحدى دول الطوق، وطرف رئيسى فى معادلة الصراع العربى الإسرائيلى، لديها أراض محتلة، بالضبط مثل الأراضى الفلسطينية، ومنها القدس التى تتعرض لأبشع وأحط عملية تزوير فى التاريخ الإنسانى، بفعل البلطجة الصهيونية والدعم الأمريكي اللامحدود.
فواشنطن مهما تغيرت، أو تبدلت إداراتها، من الجمهوريين إلى الديمقراطيين أو العكس، ومهما كان اسم قاطن البيت الأبيض، فلن تتراجع عن تنفيذ مخططاتها، وإن حاولت تجميل صورتها القبيحة، أو حاولت غسل سمعتها السيئة عبر إعلانها مواقف شكلية، للاستهلاك الإعلامى فقط، ولتحقيق نقاط في الجولات الانتخابية، وهى مواقف قائمة بالأساس على التكتيك، حسبما تقتضيه ظروف كل مرحلة ، فالولايات المتحدة حققت جزءا من مخططاتها، بإرباك المنطقة وإدخالها فى دوامات الاقتتال الداخلى، العراق، وسوريا، واليمن، أنهكت الجيوش فى حروب طويلة، وأنعشت من خلالها خزائنها بمئات المليارات، الناتجة عن تجارة السلاح، لكل الأطراف المتصارعة، وعندما استشعرت غضبا دوليا على سياساتها، راحت تلعن الارهاب وتلعن من يدعمه، رغم أنها الصانعة له من القاعدة الي داعش وما بينهما، مثلما صنعت الاستخبارات البريطانية الجماعة المارقة "الإخوان"، والتي تنفذ أجندة الصهيونية العالمية بجدارة.
فواشنطن هي التى دبرت لكل ما جرى، بهدف إعادة رسم الخرائط الجغرافية، بما يحقق لها الهيمنة على العالم، باعتبارها القطب الأوحد والراعى الرسمى والتاريخى لأمن ومصالح الدولة .
لا يمكن لأحد إنكار الحقيقة، ومفادها بأن السياسة الأمريكية، وانحيازها للكيان الصهيوني، وضع أنظمة الحكم العربية فى مأزق سياسى خطير للغاية، علي الأقل أمام شعوبها، و من بينها مصر بطبيعة الحال، باعتبارها الدولة الأهم، خصوصا مع اتساع مساحة الضبابية في المشهد ، وما يحويه من متناقضات بين الخطاب الرسمي، والسطحية في التناول الاعلامي، لأن دورها محورى ورئيسى وتاريخى فى الصراع العربى الإسرائيلى ، رغم وجود اتفاق سلام مع الدولة العبرية، فضلا عن نواح أخرى، فى مقدمتها حساسية القضية الفلسطينية التى تتعاطف معها الشعوب العربية والإسلامية، إذ تنظر إليها الأغلبية الساحقة فى العالم العربى كقضية رئيسية، لكن كثيرا من العقبات كانت تواجه محاولات توحيد الصف الفلسطينى، بعد تورط حماس فى الكثير من الجرائم على الحدود المصرية، فضلًا عن إقامة معسكرات للتدريب على الأعمال المسلحة الموجهة داخل سيناء.
لكن ما بين هذا وذاك، لا يمكن إغفال ضرورات المواءمات السياسية، المرتبطة بدواعى الأمن القومى العربى بصفة عامة، و الأمن القومي المصرى على وجه الخصوص، إلى جانب الاعتبارات التاريخية والأخلاقية تجاه القضية الفلسطينية، ساهم فى حساسية موقف الدولة المصرية تجاه حماس، خاصة إذا علمنا أن المواقف الرسمية تسير وفق رؤية استراتيجية، ولا تقوم على الانفعالات العاطفية، أو ردود الأفعال، باعتبار أن ما يحدث في غزة، لا يمثل شأناً فلسطينياً خالصاً، لكنها قضية قومية ، باعتبارها الأكثر حضورًا وطغيانًا على ما سواها لدى المصريين، فالدولة المصرية دخلت الحروب من أجل تلك القضية، عام ١٩٤٨ و١٩٦٧، ثم حرب السادس من أكتوبر ١٩٧٣، ودفعت أثمانا باهظة جراء تلك الحروب، لا زلنا نعانى من تداعياتها حتى الآن، كما أن الدولة، كمؤسسات، لا يمكن لها اغفال ملف القضية الفلسطينية أو القدس ، فهما على رأس أولوياتها فى المحافل الدولية.
لذا فإن التعامل الرسمى مع هذا الشأن، ربما لا يكون متناغماً مع الهوى الشعبى، ولا يكون متسقا مع مزاجه العاطفى، فالموقف الرسمى، أكرر مرة أخرى، الموقف الرسمى للدولة، محكوم بمعطيات، واعتبارات سياسية على المستويين الإقليمى والدولى، ولا ينتج بصورة انفعالية، بل يأتى متسقا مع استراتيجية الدولة، ووفق مسئولياتها القومية والتاريخية تجاه تلك القضية ، الي جانب ضرورات الأمن القومي المصري والاقليمي.
هذه الاعتبارات تراعي حقيقة الواقع داخل الأراضى المحتلة، وهو الذى يؤكد، وهذه هى المصيبة الأكبر، حالة الانقسام فى الصف الفلسطينى، فالفلسطينيون سواء المواطنون ، أو غيرهم من المنخرطين فى المنظمات والفصائل المتنوعة، يعلمون قبل غيرهم، أن الانقسام الداخلي لا يصب فى صالح قضيتهم .