نيفين منصور تكتب: جنود السكينة
تتنوع الجيوش ما بين السماء والأرض ، وتختلف من دولة لأخرى ، ولكل منهم مهامه الواضحة ،وقت السلم والحرب ، ولمِالك المُلك أيضا جنود منها ما هو معلوم وواضح ،ومنها الجنود الخفية ،يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) .
تجمع تلك الآية الكريمة بين السكينة والإيمان وبين العِلم والحِكمة وبين جنود السماوات والأرض ، ذلك الجمع الرائع يُعَظِّم دور جنود المولى عز وجل ، فلم يقتصر دورهم على الحروب والجهاد بالنفس والمال ، وإنما يشرح أيضا دور آخر للبعض منهم ، وهم جنود السكينة والإيمان ،فالحروب ليست كلها جسدية ، الأصعب من تلك الحروب هو حرب النفس للوصول للإيمان ، وذلك بعد نزول السكينة .
والسكينة في اللغة تعني الطمأنينة والاستقرار ، وهي حالة عندما يصل إليها الإنسان ، يستطيع أن يُمَيِّز بين الحق والباطل ، فيزداد القلب نورًا ، فيتملك الإيمان هذا القلب ، وكلما زادت تلك السكينة إزدادت معها الفرصة للوصول للإيمان أو زيادته، تلك الحرب هي أصعب حرب تَعَرَّض لها الإنسان ، ويمر بها كل من كُتِبَ له أن يولد على هذه الأرض ، ولا مَفَر منها أبدًا.
ومن حكمة المولى عز وجل وعدله ، جعل لتلك الحروب جنود خفية ، مُسَيَّرة لتنقية القلوب من الشوائب حتى تنزل السكينة ، فيتغلب المَرءُ على طاغوت الفكر والمعاناة ، وأكثر ما يؤلم أي إنسان على وجه الأرض هو الإحساس بالقهر ، وقلة الحيلة وعدم القدرة على الوصول لما يتمناه ،لذلك سَخَّر المولى عز وجل هذا النوع من الجنود لقضاء الحوائج ومساعدة الآخرين دون مقابل .
وقد يكون هذا الجُند الخفي شديد القرب منك دون أن تشعر ، كما حدث مع العالمة الجليلة سميرة موسى ، الذي انتقل والدها من قريته في مركز زفتى إلى القاهرة ، وجاهد العادات والتقاليد السائدة في هذا الزمان ، وساند ابنته حتى أصبحت من أميز النساء ومن أعظم العلماء .
هذا الجند الخفي كان جند من جنود السكينة ، اختاره المولى عز وجل ليكون مثلا يحتذى به ، لتذليل الصعاب ، حتى اطمئن قلب ابنته ، وتركها لتخوض أصعب معركة في تاريخ الأرض ، وهي معركة العلم والإيمان ، أبطل المولى عز وجل أمامها الحُجة ، وهيأ لها الطريق للرضا والاستقرار، ثم ترك لها الاختيار .
أمثلة متعددة تتكرر بين الحين والآخر ، منها المتشابهة ومنها المتباينة ، وقد يكون دور الجند الخفي في كل حالة مختلف ، ولكن تجمعهم صفات واحدة ، وهي ما وردت في حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ لِلَّهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا عَنْهُمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ ).
وجنود السكينة تفتح أبواب الخير وتُغلِق أمام الطواغيت سُبل السيطرة على القلوب ، وينالون البر ويُعَلِّموا من حولهم كيفية الوصول إليه ، كذلك أسمى معاني الإيثار ، فهؤلاء الجنود ينفقون مما يحبون كما قال المولى عز وجل في كتابه الكريم (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) .
والبِر هو اتساع في الإحسان ، ولهم نصيب من الخير أيضاً ، فهؤلاء الجنود بإنفاقهم مما يحبون ، منهم من يشفع شفاعة حسنة فيكن له نصيب منها ، ومنهم من يكرمه المولى عز وجل بالنِعَم دون أن يشعر لأنه من الرحماء ،ويُعَامَلوا بالإحسان دون أدنى شك لأنهم ينطبق عليهم قول المولى عز وجل ( هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ ).
رحمة الله بعباده واسعة ، والخير يأتي رغم كل شر ، وفي النهاية يترك لكل منا الاختيار ، منا من يرى الخير بوضوح فيسكن الإيمان قلبه، ومنا من لا يكتفي بالسكينة والرضا ، ويسعى للمزيد ويتملك العمى قلبه ، رغم كل ما كرمه به المولى عز وجل من سكينة وطمأنينة ، فيختار الخروج من رحمته بإرادته الحرة .